أنـــا ولـــي!..


        قال محدثي: أبي شيخ كبير، يحنو علي حنو المرضعات على الفطيم!.. أصطفيه جليسا في أحاديث العشيات، لما ينثر من فرائد الفوائد وعذب الأشعار، وما يستحضر من حوادث وتجارب ينفض عنها غبار السنين!.. ومع ما فيه من خشية وإنابة وعفة لسان، فإنه شديد التمسك بما تواضع عليه الناس دون اعتبار لصحة أو فساد، ويتوجس خيفة من كل جديد!.


         وحين اشتد عنت الصحراء وجاء بنا من البدو، واستقر بنا المقام في العاصمة، تلقفني شباب الصحوة الميمون، فعرفت ما لم أكن أعرف، واتسعت مداركي، ونهلت من معين السنة، وصححت بعض مفاهيمي وقناعاتي، وعلمت أن دين الله فوق العادات والأعراف الموروثة، وأنه لا قبول لسعي العبد ما لم يكن خالصا لله عز وجل، موافقا لما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم.


         هذا التحول الكبير والاتساع في المدارك ألقى بظلاله على مسامراتي مع الوالد، إذ لم يعد يستوعب بعض مفرداتي وأفكاري، مهما حرصت على الوئام والانسجام!.. إلا أن موقفا طريفا ظل محفورا في ذاكرتي: إذ تطرق الحديث ذات سمر رمضاني ماتع لأحد الوجهاء المتبوعين، وأنه من أولياء الله الصالحين، فندت مني عبارة: "وأنا ولي من أولياء الله!..".. فكانت كالصاعقة عليهم، حاولت تسويغ كلامي وأن "الولاية" متاحة لكل عبد، وليست حكرا على فلان أو علان!.. لكن غضب الوالد جرف كل ذلك، ووجدت مشقة كبيرة حتى استعطفته وأرضيته!..

         قال أبو عبد الملك: هذا الموقف المؤثر  يستدعي من العاملين لدين الله جل وعز بذل الوسع لتعليم الناس، وتعبيدهم لربهم، إذ يسود في مجتمعنا انحراف كبير في فهم أبواب كثيرة من الدين، أو فهمها على غير وجهها، بسبب تقليد المشايخ المتبوعين (الموسومين بالأولياء)، واعتقاد بعض الأتباع فيهم معرفة الغيب والنفعَ والضر، واتخاذهم وسائط من دون الله عز وجل، يستغيثون بهم ويستعينون، بل إن "الولي" في عرف العامة هو "المدعي لعلم الغيب".

         والواقع أن تحريف مفهوم الولي لا يقتصر على العامة، بل إن تراث الصوفية يحوي كثيرا من الخلط في هذا المفهوم، فيتداخل مع مفاهيم صوفية أخرى، من قبيل الفناء والحلول والاتحاد، بل قد يصل حد إسقاط التكاليف الشرعية، ويكون من نصيب فئة بعينها خالصا لها من دون المؤمينين.

        فقد ذكر الجرجاني في تعريف الولاية: (قيام العبد بالحق عند الفناء عن نفسه)، وذكر القشيري أقوالا منها: (أن يميتك الحق عنك ويحييك به)، وقال السري السقطي: (لا تصلح المحبة بين اثنين حتى يقول الواحد منهما للآخر: يا أنا)، وقال أبو علي الجوزجاني:  (الولي هو الفاني في حاله، الباقي في مشاهدة الحق سبحانه، تولى اﷲ سياسته فتوالت عليه أنوار التوالي)، وقال الجنيد عن المحبة: (دخول صفات المحبوب على البدل من صفات المحب)، ويقول الشبلي: (أنا أقول وأنا أسمع فهل في الدارين غيري؟)، وذكر الغزالي أن توحيد العوام: )لا إله إلا هو، وتوحيد الخواص لا هو إلا هو(.  للاستزادة (كتاب أولياء الله لدمشقية ص 4 فما بعدها).

        إن حملة هم الإصلاح حين يدعون إلى الاسلام الحق، ويحذرون من البدعة والمبتدعين، يواجَهُون بالفهم الخاطئ  لحديث أبي هريرة رضي الله عنه عند البخاري: (إن الله تعالى قال: من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب)، فيُتَّهمون بمعاداة الأولياء، مع أنهم لم يعادوا غير البدعة والخرافة، ولم يحذروا من غير الشرك واتخاذ الوسائط من دون الله عز وجل، حتى لا يستغاث بها ويستعان، وتسأل جلبَ النفع ودفع الضر.

       يقول شيخنا د. محمد ولد زاروق "الشاعر" ردا على أحد ممتشقي حديث "من عادى لي وليا" في وجه كل داعية للسنة:

أقول لمن يحمي سخافات بدعــة *** عليك بتزويق وقول مزخــــرف
وأصل بأضغاث المنامات والهوى *** ودع ذكر إسناد الحديث المشرف
فمالك والاسناد في رسم منهــج *** بحدثني قلبي عن الرب مكتـــف

وفيها:

ودين السكارى عفت إني مكلف *** وتلك خطابات لغير المكلف
نبذت وليـا لا يوالي موحـــــدا *** ولِيٌّ بتدجيل وأسرار أحــــرف
طروب إذا ما الغانيات تكشفت *** وإن هد ركن الدين لم يتزنف
دعي فناء في الهوى وفنـــاؤه *** عن الشرعة الغراء في كل متلف

      ولتعميق فهمنا لهذا الباب العظيم نورد في هذه العجالة المفهوم الصحيح لـ"الولي" لغة واصطلاحا، وبعض كلام أهل العلم بشأن "الولي والولاية":

 - قال الفيروزآبادي: ("الولي" القرب والدنو والمطر بعد المطر، وليت الأرض بالضم. والولي الاسم منه المحب والصديق والنصير، وتولاه أي اتخذه وليا) / القاموس المحيط: ]4/404[.

- وفي الصحاح: "الولي ضد العدو. والموالاة ضد المعاداة والولاية بالكسر"]736[.

- وقال الراغب الأصفهاني في غريب القرآن: (الولاء والتوالي أن يحصل شيئان فصاعدا حصولا ليس بينهما ما ليس منهما، ويستعار ذلك للقرب من حيث المكان، ومن حيث النسبة، ومن حيث الدين، ومن حيث الصداقة والنصر والاعتقاد)/ ]533 [.

        فــ"الولي" في الاصطلاح: هو المؤمن التقي، "المواظب على الطاعة، المجتنب للمعاصي، المعرض عن الانهماك في اللذات والشهوات المباحة، المحافظ على السنن والآداب الشرعية قدر الاستطاعة"، وقد حددت الآيات من سورة يونس معنى الولاية الصحيح، قال الله تعالى: (أَلاَ إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (63) لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ(64)).

        وقد عرفه الامام الحافظ ابن حجر  رحمه الله: (المُرادُ بِولي الله المواظِبِ عَلى طاعَتهِ، المُخْلِصِ في عِبَادتِه) فتح الباري] 11/350 [  .

        كما عرف شيخ الإسلام ابن تيمية "ولي الله" بأنه: (من والاه بالموافقة له في محبوباته ومرضياته، وتقرب إليه بما أمر به من طاعاته) الفتاوى [11/62] ، وقال رحمه الله:"كل من آمن بالله ورسوله واتقى الله، فهو من أولياء الله "[الفتاوى 3/417] .

            ويقول ابن رجب رحمه الله: (فظهر بِذلك أنه لا طرِيق توصل إلى التقرب إلى الله تعالى ووِلايته ومحبته سوى طَاعَته الَّتي شرعها على لسَان رسوله صلى الله عليه وسلم؛ فمن ادّعى وِلايته والتقرب إليه ومحبته بغير هذه الطريق تبين أنه كاذب في دعواه ، كما كان المشركون يتقربون إلى الله تعالى بعبادة من يعبدون من دونه)/ الجامع [2/336].

         ومنه نجد أن باب الولاية مفتوح لعامة الناس، يتفاوتون فيه تفاوتهم في الإيمان والتقوى، وليس وساما يوشح به خاصة الخاصة، يمتلكون به رقاب الناس، ويأكلون أموالهم بالباطل، لذا لزم بذل الوسع للفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان، ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة.



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

كافة الحقوق محفوظة 2013 © مدونة alghasry