أواجه بين الفينة والفينة أسئلة من هذا القبيل في مشرقنا
الإسلامي، ليس من العامة فحسب، وإنما من بعض الخاصة!.. وأحيانا يتملكي الحزن لضعف
تصور بعض أحبتي للجغرافيا في عصر موت المسافات، وعدم اطلاعهم – بما يكفي - على إسهاماتنا
العلمية والثقافية المشهودة.
والواقع أن لتصرم حبال
الوصل بين جناحي الأمة شواهد من التاريخ، فالإمام ابن حزم رحمه الله شكا هذا الهم
في شعر جميل أخاذ:
أنا الشمس في
جو العلوم منيرة ** ولكن عيبي أن مطلعي الغــــرب
ولو أنني من
جانب الشرق طالع ** لجد على ما ضاع من ذكري النهب
ولقائل
أن يقول: لدى ابن حزم – نفسه - قصور في الاطلاع على تراث المشارقة، حتى إنه قال عن
الإمام الترمذي: مجهول!.. والأقرب أن ذلك وهم، فقد ذكره وأثنى عليه في "الرسالة
الباهرة".
وَ "انقطاع الاتصال" هذا لم يكن
سمة بارزة في القديم، ولم تكن الأمة يوما "جزرا ثقافية متباعدة" كما
يصورها البعض، والدليل هذا التراث الهائل من الأسانيد والإجازات والشروح والردود العلمية،
التي ينصهر فيها المشارقة والمغاربة، في انسجام وتكامل قل نظيره، وقد تجشموا في
سبيل ذلك عناء الرحلة، وجابوا الآفاق مع بعد الشقة وقلة الزاد.
أما نحن فقد قصرنا في توظيف الامكانات
والتيسيرات المادية الكثيرة في سبيل ردم الهوة، ومد جسور التواصل بين مغربنا
ومشرقنا.. لنسمو في مدارج الكمال، وننهل من معين العلم والمعرفة، فيتصل ما لدى المغاربة من عمق وعبقرية بما عند المشارقة
من منهج وحركية.
وحتى لا نذهب بعيدا دعونا نعود لشنقيط!..
شنقيط - يا أحبتي – ليست قبيلة ولا عائلة .. شنقيط حاضرة إسلام ، ومنارة
علم، ورباط جهاد، تأسست أواسط القرن الثاني الهجري على يد مهاجرة الفتح الأول، تقع
في الشمال الشرقي من موريتانيا اليوم، وقد بقيت لقرون مركز تجارة تلتقي فيه قوافل الصحراء، وهمزة وصل بين
شمال وجنوب القارة السمراء، تخللت مسيرتها عبر التاريخ فترات ركود، قبل أن تستعيد
ألقها في القرون الأخيرة.. وشنقيط اليوم مدينة وادعة، تغفو في أحضان تلال ذهبية، ترصعها
واحات نخيل غناء، ولا تزال مساجدها القديمة ومكتباتها العامرة خير شاهد على إشعاعها
المعرفي، وإسهاماتها الحضارية، ولا غرو!.. فهي "مدينة المكتبات" و
"مكة موريتانيا".
هذه الأهمية الكبيرة جعلت من "شنقيط
" عاصمة علمية وثقافية لشمال وغرب القارة، حيث يفد إليها طلاب العلم
والباحثون، لينهلوا من تراثها الثر، كما أضحت ملتقى للحجيج، منها تنطلق القوافل
إلى البيت العتيق، مرورا بالسودان ومصر فالحجاز، لذا كانت "سنقيط" أم
قرى الصحراء بحق، وعرف الإقليم بـ"بلاد شنقيط" وأهله بالشناقطة، وواحدهم
"شنقيطي".. كان ذلك بالطبع قبل نشوء الدولة الحديثة.
ولا شك أن الزخم الكبير، والشهرة الواسعة
التي حققها الشناقطة في المشرق، ترجع في المقام الأول لكوكبة من العلماء العاملين
والدعاة المصلحين، الذين عرفوا بالإحاطة والرسوخ العلمي، والعمق المعرفي، والحفظ لمختلف
العلوم، وسائلها وغاياتها، فقد تأسسوا في "جامعات الصحراء" (المحاظر) وفق
منهج تعليمي فريد.
وقد تقلد سفراء العلم الشناقطة أرفع
المناصب العلمية والإدارية في البلاد التي شرفت بمقامهم، فهذا فخر شنقيط الإمام
العلامة محمد محمود التلاميد التركزي يتصدر المشهد العلمي في أرض الكنانة، حتى
اعترف عميد الأدب العربي أن "لم يكن درس اللغة العربية بالأزهر مهما قبل مجيء
الشيخ الشنقيطي"، كما انتدبته الخلافة الاسلامية لمشروع علمي رائد، تمثل في
حصر الكنوز العلمية الإسلامية في المكتبات الغربية، وهو من أخرج للأمة القاموس
المحيط وغيره من دواوين العربية.
وعلى
هذا المنوال نسج أئمة أعلام، منهم العلامة المجيدري حبيب الله، والعلامة محمد الأمين
الحسني نزيل الزبير وشيخها، والعلامة محمد الخضر مايابى الجكني، والعلامة أحمد الأمين
العلوي، والعلامة الإمام محمد الأمين الشنقيطي صاحب أضواء البيان، حيث لا تزال
آثارهم شاهدة على عمق التأثير في حواضر المشرق.
إن استمرار النموذج الشنقيطي في التأسيس العلمي
والاشعاع المعرفي مرهون ببقاء "الدرس المحظري"، فهذا النموذج مصمم ليوائم
حياة الانتجاع، وقد حققت جامعات الصحراء الغاية وشكلت استثناء في تاريخ العلم، وجعلت
من شنقيط البداوة العالمة الفريدة:
قد اتخذنا ظهور
العيس مدرسة *** بها نبين دين الله تبيانا
ولأن مخاطر كثيرة تتهدد هذا النموذج،
فإنه لا مناص من وضع خطط للاستمرار وإعادة الهيكلة، وحلول واقعية للتحديات المرتبطة
بالموارد والمناهج، والتفكير في إطار للتكامل مع المنظومة التعليمية الرسمية، ومواءمة
مخرجات المحظرة للاحتياجات في واقع الحياة، بعيدا عن الحلول الترقيعية، وسياسات
التجفيف والتحجيم.
إن المنظومة المحظرية – لظروف النشأة -
اعتمدت المنهج التلقيني، وغاب عنها التدوين في الغالب، وهو ما يجب تلافيه بنفض
الغبار عن التراث المحظري، وإخراجه بأدوات العصر، الذي تراجعت فيه الثقافة
الشفاهية وساد التدوين، فعلى كتابنا جمع ما تفرق في السطور والصدور ليكون ذاكرة
للأجيال، ومَعلما للأمة يهدي في دروب الحياة.
كما يجب تنزيه وصيانة هذا اللقب
الشريف من الامتهان، فقد كان عنوانا للرسوخ المعرفي والاحاطة العلمية، وكذلك يجب
أن يبقى، فلا يحسن بصغار طلبة العلم حمل هذه النسبة "الشنقيطي"، أحرى أن
يخوضوا بها الوحل المعرفي، ويغردوا خارج السرب، فمن كان منكم ذا شذوذ وشطحات،
فليمارس شذوذه باسمه واسم أبيه، وليدَع لنا هذا الرمز أبيض ناصعا، لا تدنسه مطامع أو
مطامح.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق