مع دعوة الدين المدني ... الجذور وجهود الأسلمة

 حين انطلقت تباشير الحركة الإسلامية المعاصرة -مع سقوط الخلافة الإسلامية وتقسيم تركة الرجل المريض- كان في الرؤى وضوح حدد درب المسير ورسم الأهداف .. لذا ارتفعت أصوات كل الغيورين يتردد صداها في الآفاق تطالب بتحكيم شرع الله في
خلق الله على أرض الله .. وإعادة الخلافة باعتبارها الرابطة الجامعة للمسلمين على مر تاريخهم الزاهر، مع حسم لمرجعية الفهم ومصدر التلقي ... وكانت الساحة الفكرية حينها تعج بمناهج وأفكار وافدة أعتى مما هي عليه الآن، ومع ذلك ظل موقف الرعيل الأول - في الغالب - من هذه الأفكار والمناهج منطلقا من الإسلام ورؤيته للإنسان والكون والحياة.
       وفي سبيل نبل الأهداف وسمو الغايات دفع السابقون الأولون ثمن الصبر والثبات، وضربوا أروع الأمثلة في البطولة والتضحية، وتحملوا الأذى في ذات الله.. ولا يزال بالميدان من يجدد سيرتهم ويحيي ذكراهم ويسير على خطاهم، إلا أن فئاما من الناس أرهقهم المسير وضعفوا عن حمل الأمانة، فاجتالتهم شياطين الإنس واستمرؤوا التغريد خارج السرب، فكان آخر صرعاتهم: أسلمة الدين المدني!!!.
         ومن حق المرء أن يتساءل: هل لا يزال القوم يرون في "الحل الإسلامي فريضة وضرورة"؟... وهل يدركون خطر "الحلول المستوردة وكيف جنت على أمتنا" ؟... أم أن عهد منهاج "المنطلق" قد ولى بعد أن دب فينا "داء الفتور" وكثر "المتساقطون على الطريق" ، لأننا تجاهلنا "معالمه" وأهملنا "الرقائق" وضعفنا عن تحدي"العوائق"... أليس غريبا أن يبشر هؤلاء بجاهليات القرن الواحد والعشرين وقد دفع سلفهم ثمن رفض "جاهلية القرن العشرين" واستعذبوا العذاب ليعيشوا "في ظلال القرآن".
       أحبتي – وأخص هنا من لم يُفسد فطرَهم التخندقُ الحركي والتعلق بالحسابات المصلحية الضيقة – دعونا نقف مع أنفسنا وقفة محاسبة ، نتلمس فيها مواقعنا ونراجع أهدافنا ، دون انجرار وانجراف وراء تيارات قد تحجب عنا أمواجُها الأفقَ وتجنبنا وضوح الرؤى .. إنه استرشاد بالهدي الرباني: "قل إنما أعظكم بواحدة أن تقوموا لله مثنى وفرادى ثم تتفكروا.."... لقد آن لنا أن نتساءل حقا وصدقا: هل نحن - جميعا - نرضى بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولا؟!! .. وهل نعتقد حقا أن الله أعزنا بالإسلام فإن ابتغينا العزة في غيره أذلنا الله؟!!.. ألا فلنعِدَّ للسؤال جوابا وللجواب صوابا، قبل أن نُسأل فلا نجيب.. "يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، ويضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء".
        وقبل أن نتناول بالتحليل الناقد مضمون دعوة الدين المدني وآخر تجلياتها نستعرض جذور هذه الدعوة وجهود توطينها في بيئتنا الإسلامية، ذلك أن أول من تبلورت لديه هذه البدعة هو الفيلسوف اللغز/ جان جاك روسو، حيث رأى في كتابه "العقد الاجتماعي" Social Contract - إنجيل الثورة الفرنسية - أن الدين المدني وسيلة فعالة لتحقيق الوحدة الإجتماعية، وبالتالي قدمه بإلحاح في مواجهة المسيحية التي هي مجرد "دين روحاني تماما، لا تشغله سوى أمور السماء وحدها ... ولا يهمه أن تسير الأمور كلها سيرا حسنا أو سيئا في هذا العالم الدنيوي" .. لذا فإن وطن المسيحي - في نظر روسو - ليس في هذا العالم.
        لقد كان روسو – بدعوته هذه – متحمسا لدور الكنيسة على نطاق "التدين الفردي" شريطة أن يهيمن الدين المدني على الصعيد الجماعي، وبالتالي تكون المحصلة انقلابا علمانيا على الكنسية، وإجهازا على بقايا النصرانية المحرفة مع إحداد للشفرة وإراحة للذبيحة، لذا قام بناء الدولة المدنية الحديثة على أنقاض حكم رجال الدين بعد صراع مديد وجهد جهيد، وأصبح الدينيReligious والمدني Civil ضدان لا يجتمعان، فهل يدرك المخدوعون من المسلمين هذه المعادلة.
        ومن الطريف ما قرأته لأحد الطيبين حول إسلام روسو، بدليل التشابه بين عبارته: "ولد الإنسان حرا وهو مع ذلك يرسف في الأغلال في كل مكان"، وعبارة الفاروق عمر: "متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتم أحرارا"، والأولى أن يكون التشابه دليلا على ريادة الحضارة الاسلامية ودورها في يقظة أروبا، لكن مرد وهم صاحبنا اختلاف الناس في دين روسو، أهو نصراني متدين أم مادي ملحد، متناسين أنه جاء مبشرا بالدين المدني، الذي سيكون وقود الثورة الفرنسية بعد سنوات من موت روسو وتقوم على أساسه امبراطوريات ودول، بل ويدعو إليه أقوام عَشَوا عن ذكر الرحمن من بني جلدتنا وممن يتلكلمون بلغتنا.
       إلى هذا الحد – من الناحية النظرية على الأقل – ليس في الأمر إشكال، فالدين المدني علمانية أنتجتها ظروف أروبا في صراعها المرير مع الكنيسة بعد ظلام وظلم داما قرونا، ولن يختلف بشأنه اثنان ممن عنت وجوههم للحي القيوم، لأن بطلان هذا الدين معلوم ضرورة من مقتضيات العقيدة ومعطيات الواقع، فالإسلام لا يقبل الشرك، وليس فيه رجال دين بالمعنى الكهنوتي، كما أنه خير دافع وحافز للرقي المنضبط والتقدم الراشد، لتأكيده على ثنائية الدنيا والدين والعلم والإيمان، في تناسق عجيب وتكامل معجز أبدعه الخالق جل وعز: "ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير".
        لكن الإحياء الجديد لهذا الدين وتقديمه كبديل حضاري للإسلام الحق كان منعطفا استراتيجيا بالغ الخطورة وإعلانا للحرب على جوهر الإسلام بدأت خيوطه تظهر للعلن مع بزوغ فجر الألفية الثالثة، ففي عام 1999 م أصدرت مؤسسة راند RAND Corporation البحثية المرتبطة بوزارة الدفاع الأمريكية (البنتاجون) كتابا بعنوان "مواجهة الإرهاب الجديد " ركزت فيه على المنظومة العربية والإسلامية، وكان ذلك بالطبع قبل الحادي عشر من سبتمبر، ثم أردفته في 2004 بتقريرها المثير عن "الإسلام المدني الديمقراطي: الشركاء والموارد والإستراتيجيات" "Civil Democratic Islam: partners, resources and strategies"، حيث رأت في الإسلام سدا منيعا أمام محاولات التغيير (أي إحلال الدين المدني الديموقراطي محل الإسلام، وإن شئت فقل: أسلمة الدين المدني)، كما صنفت المسلمين ضمن أربع مجموعات: أصوليين- وتقليديين – وحداثيين – وعلمانيين.
      وفي معرض الحديث عن المسلمين الأصوليين يردف التقرير بنص العبارة: "تجب محاربتهم واستئصالهم والقضاء عليهم، وأفضلهم هو ميتهم، لأنهم يعادون الديمقراطية والغرب، ويتمسكون بما يسمى الجهاد وبالتفسير الدقيق للقرآن، ويريدون أن يعيدوا الخلافة الإسلامية، ويجب الحذر منهم لأنهم لا يعارضون استخدام الوسائل الحديثة والعلم في تحقيق أهدافهم، وهم ذوو تمكن في الحجة والمجادلة".. ويستمر التقرير في تحديد ملامح باقي الفئات مركزا على ضرورة تحصينها ضد سرطان الأصولية، بل واستخدامها للحرب على المسلمين الأصوليين، فهم مكمن الخطر وعنوان الشر في رأي راند.
        وفي 2007 م نشرت نفس المؤسسة تقريرها الجريء "بناء شبكات مسلمة معتدلة" Building Moderate Muslim Networks كوثيقة عمل تفصيلية تحدد أطر الحرب على الإسلام كدين بتحريفه وتحجيم دور العاملين له ، ويحدد التقرير – وهذا هو الأهم – وصفة أمريكية لــ "المسلم الصالح" أو "المعتدل"، ذلك أن نقطة البدء في بناء شبكات من المسلمين المعتدلين – حسب التقرير - تكمن في تعريف وتحديد من هم هؤلاء المعتدلون.
       فإذا أردت -أخي القارئ- أن تكون "مسلما معتدلا" فما عليك إلا أن تقبل بالديمقراطية وتؤمن بها (انتبه: إنها قضية إيمان!)، وترفض فكرة الدولة الإسلامية وتقبل بالقوانين الوضعية، وتؤمن بأن الشريعة لا تتناسب مع مبادئ الديمقراطية ولا تحترم حقوق الإنسان وحرية التدين، وعليك أن تحترم حقوق النساء والأقليات الدينية وتنبذ الإرهاب والعنف (طبعا وفق الرؤية الامريكية المعولمة، والتي يراد لها أن تكون المعيار والمنظار), وأعيذك بالله أن "تكون معتدلا" أو "وسطيا" بهذا المعنى، فمع الإعتدال الامريكي ستكون كلَّ شيء إلا أن تكون مسلما.
         ورغم خطورة هذه الحرب المعلنة ونشر خططها الجهنمية فإنها لم تواجه بالجهد الكافي من العاملين لهذا الدين وحملة همه, ولا يزال عموم المسلمين في غفلة لا يدرون ما يراد بهم، إلا من رحم ربك وقليل ما هم، لذا فإن آثارها المدمرة بدأت تظهر للعلن، يبدو ذلك جليا في كثير من مناحي حياتنا المختلفة، وكأن كل الإمكانات مسخرة لتحويل هذه الخطط إلى واقع، تعكس ذلك طرائق العيش، ومناهج التعليم، ومخرجات الإعلام من هشيم صحافة وركام برامج.
         وقد تكاملت جهود أطراف عدة للتمكين للدين المدني وتوطينه في بيئتنا الإسلامية، بدءً بالعدو الخارجي الذي يفرض أجنداته بقوة الحديد والنار، تسنده حكومات تابعة تنصاع لإملاءاته رغبا تارة ورهبا تارات، مستخدمة إمكاناتها الهائلة من ميزانيات لا تخضع للرقابة، ووسائل إعلام موجهة، ومنظومة دينية رسمية أمثل القائمين عليها طريقة غُفل لا يدركون حجم التحديات، يسهمون في خلق تدين مقصوص الجناحين مقلم الأظافر، وإلى جانب هؤلاء وجد المنافقون بغيتهم وركبوا الموجة، فقد زالت عنهم سبة الخروج على الأمة ودينها بعد أن تبتلوا في محاريب الدين المدني الجديد، وصاروا من علمائه الراسخين، يبشرون بقيم الديمقراطية والاعتدال والتسامح وقبول الآخر، وحرية الفكر والكفر والفن والعفن.
           إلا أن التحدي الأبرز كان في استكانة بعض العاملين للإسلام، وحملهم لواء أسلمة الدين المدني بعد انبهارهم ببريق دعايته الزائفة، فأصبح حاضر القوم يكذب ماضيهم، وخلقوا بذلك فتنا في الناس أبقت حليمهم حيران، وغاب عن مضمون الخطاب لدى هؤلاء نور الوحي، فكان عاقبة أمرهم تميع وذوبان في التيارات والمناهج الجاهلية، وأضحى من المألوف أن تجد من كان ينادي في الناس صباح مساء بحاكمية الاسلام وقد تدثر بلبوس الدين المدني وعب وشرب من كأسه حتى الثمالة، فرأى – من فرط سكرته- في الدين المدني الديموقراطي الطريق الأوحد لحياة إسلامية راشدة، ونادى في الناس أن رضيت به دينا؟!!، وعندما يواجه بالنكير يزعم أن الديمقراطية هي الإسلام!!!... إمعانا منه في التزوير، أو جهلا بالإسلام أو بالديمقراطية أو بهما معا... بالله نعوذ من مضلات الفتن ومن نزغات الشيطان.



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

كافة الحقوق محفوظة 2013 © مدونة alghasry