(السياق الزماني–أغسطس2011)
ما إن بدأت بواكير
الثورات المباركة تؤتي أكلها حتى طفت على سطح الأحداث جملة مخاطر تتهدد كيان
الأمة، وتحيل التضحيات الجسام التي قدمتها سرابا بقيعة، ورغم كل ذلك سادت فرحة
عارمة
وشعور بالنصر، مع ضجة إعلامية صاخبة، مما لم يتح فرصة التقاط الأنفاس وتدبر الأمر!..
وشعور بالنصر، مع ضجة إعلامية صاخبة، مما لم يتح فرصة التقاط الأنفاس وتدبر الأمر!..
كما أنستنا المظاهر
الاحتفالية غير البريئة أن الحرب لم تضع بعد أوزارها وأن ميدان التضحيات طويل
والطريق شاق، فلا مكاسب تغتنم ولا إرث يقتسم، إلا إرثا ثقيلا من الطغيان والتخلف
والبعد عن مصادر العزة، والترهل في البنى السياسية والاجتماعية والتنظيمية للأمة.
إن أسئلة كثيرة جديرة بالتأمل لم نزل نصم عنها الآذان.. صحيح أن مواجهة الحقائق قد
تنغص علينا الفرحة الوليدة التي غابت عنا لعقود، ولكن مصارحة النفس ورؤية الواقع
دون مساحيق ستجنبنا مخاطر الإنزلاق إلى أتراح لا أفراح بعدها ترجى، وماذا تغني
الفرحة الكاذبة عن قوم سيتبدى لهم الواقع المر غدا، وغدٌ لناظره قريب...
إن الرشيد ليس تفتنه
لذة اللحظات العابرة، ولا يسهل انقياده لضجيج الدعايات الموجهة.
فلنبدأ إذن طرح الاسئلة الكبرى: ماذا تريد الشعوب؟ ... وهل هي مَن رسم الأهداف
وقَطَف وسيقطف الثمار؟ ... هل تحققت أهداف الجولة الثورية الأولى في ربوع القيروان
وأرض الكنانة؟ ، وستتحقق قريبا أهداف الجولة الثانية بسواعد أحفاد عمر المختار،
وبإيمان أبناء يمننا السعيد وشامنا صفوة بلاد الله؟ ... وهل مد الثورة العاتي
سينزل بساحة باقي العرب، فإذا نزل بساحتهم فساء صباح المنذرين؟ ... وعندها يستحيل
حال الأمة من حكم الطاغوت إلى الخلافة الراشدة ... هل الجماهير فعلا تقود نفسها
بنفسها ولا أحد يملك الوصاية عليها؟ ... وإلا فمن يقود الثورات إذن؟ ... هل
الثورات حققت شيئا ذا بال حتى اللحظة؟ ... وهل يحق لنا أن نفرح رغم دمائنا النازفة
؟... هل هي فعلا ثورة الشعب ليستعيد سيادته ويحكم نفسه بنفسه؟ ...
أسئلة كثيرة تطرح نفسها بإلحاح، ومع أننا لسنا بمعرض الإجابة عليها فإننا سنخط بعض
التهميشات العجلى، علها تسهم في إيضاح جوانب مهمة في مسارات الأحداث.
مطالب الثائرين:
حقيقة واحدة يجب أن نتفق حولها لأنها لا تقبل الاختلاف ... إنها "مطالب
الثائرين" التي لا تزال أصداؤها تتردد، وقد بحت أصوات الملايين لإسماعها لمن
يهمهم الأمر، بدء بالمطالب اليسيرة التي لم تتعدَّ الهموم المعاشية، مرورا
بالمطالب القيمية كالعدل والمساواة وكبح جماح الاستبداد والفساد، وانتهاء بالمطلب
المفخخ: "الشعب يريد إسقاط الرئيس" ... "الشعب يريد إسقاط
النظام" ... الذي أقض مضاجع الطغاة ... لكن رغم وضوح وبساطة العريضة المطلبية
يبقى الإشكال في "كتابة العناوين" و" ترجمة المطالب" إلى
برامج عمل، حيث يكون التأويل بل التحريف المتعسف أحيانا سيد الموقف، وقديما قيل ما
ضل قوم إلا بتأويل.
لقد ترددت صيحات التحذير من مخاطر خطف الثورة من قوى الردة، لكن في مقابل غفلة عن
حصوننا المهددة من الداخل، فمع أول يوم لحظنا بوضوح حملات ممنهجة لتحريف مطالب
الثائرين وأدلجتها بما يثير الريبة، فحين تضج الجماهير برفض الظلم والطغيان وتعلن
شوقها للعدل والحرية والكرامة يقول قائلون: إنها تريد الديموقراطية والدولة
المدنية، وكأن الديموقراطية هي العدل، حتى إن إحدى أكثر القنوات حضورا اختصرت على
نفسها الطريق وأصبحت تردد صباح مساء: جاءت "الجماهير المطالبة
بالديموقراطية" وذهبت "الجماهير المطالبة بالديموقراطية" ... تصف
بذلك حتى الجماهير الليبية التي يندر أن ترد لفظة "الديمقراطية" لها على
لسان، فهم أيضا دعاة ديموقراطية ودولة مدنية!... ووقع في هذا الخلط بعض الصادقين
دون تمحيص وروية.
إن
حمَلَة الأفكار والمبادئ يجب أن يتحلوا بقدر ولو يسير من الشجاعة يحملهم على الصدع
بما يرونه الأصلح والأصوب دون التواري وراء الشعوب فما عليهم في ذلك من سبيل، إنما
السبيل على الذين يسرقون عرق الضعفاء بل ودماءهم، ولايقاتلون إلا في قرى محصنة أو
من وراء جدر، الذين هم كحُمَّى أبي الطيب:
وزائرتي كأن بها حياء ....
فليس تزور إلا في الظلام
إننا معشر المنادين بحاكمية الشريعة رغم إيماننا بأن تيارات مناوئة مختلفة المشارب
كانت وقودا للثورة – حالها كحالنا تماما - فإنه لا يجوز أن يحملنا ذلك على قبول
رسم المسار بما يعارض الشرع الذي ارتضاه الله لنا، وقد قال: "ومن يبتغ غير الإسلام
دينا فلن يقبل منه"، لأنه ليس لنا في الأمر خيرة وقد قال عز وجل: "وما
كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من
أمرهم"... يجب أن ننادي بها مدوية لا نقبل فيها مجاملة ولا مداهنة، قال الله
تعالى: "ودوا لو تدهن فيدهنون".
وإن كان بالإمكان تفهم انحناءة البعض مع بدء المد الثوري درءا لمفسدة الفتك
بالأبرياء تحت دعاوى الإرهاب العريضة، فإنه آن الأوان لأن يرفع أهل الإسلام رايته
بعد أن تحددت ملامح المعركة، فذلك وحده يجنب الأمة الإرتكاس والردة إلى عهد
القطيعة مع دينها، فلو وقفت الشعوب سدا دون حاكمية الشريعة وأرادت حكم الجاهلية
–وهو أمر لن يكون- فإننا نكون قد خرجنا من حكم طاغية فرد إلى طغيان أمة، قال الله
تعالى: "أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون"، وقال
تعالى: "ألم
تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم ثم يتولى
فريق منهم وهم معرضون، ذلك
بأنهم قالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودات وغرهم في دينهم ما كانوا يفترون، فكيف
إذا جمعناهم ليوم لا ريب فيه ووفيت كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون ".
إن قصر المطالب على الجوانب المعاشية المحضة يجعلنا ممن يرضى أن تكون الدنيا أكبر
همه، وهو ما لا يرقى إلى مقام التكريم والعبودية لله عز وجل التي تسمو بنا فوق
نوازع الأرض، قال تعالى: "ولقد كرمنا بني آدم"، وقال تعالى: "وما
خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون".
يروج كثيرون أن الثورات مدنية سلمية، وتلك مكابرة تقفز على الواقع وتتجاهل
المعطيات، إذ لم تنجح ثورة حتى الآن إلا بقدر رصيدها من القوة العسكرية، وكانت
بوصلة الأحداث دائما تبعا لهوى الجيوش، مع أنه لا أحد ينكر زخم الحراك الشعبي.
ما من شك في أن حملة
المبادئ ودعاة الحق والعدل تنفسوا الصعداء في البلاد التي حققت فيها الثورات بعض
المكاسب، لأنهم أول ضحايا الأنظمة الطاغوتية أيام كانوا ضيوفا دائمين لغرف جهنم،
ومارست عليهم الأنظمة المتعاقبة الحرب بالوكالة، لكن لا يجوز أن يكون ذلك مدعاة
للركون والدعة على حساب مصالح الأمة، فمتى كان هؤلاء يفكرون في ذواتهم وقد قدموا
الغالي والنفيس ذودا عن الحياض ودفاعا عن الحق وإحسانا
للخلق.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق