جهود الشناقطة في خدمة علم رسم المصحف


   
     إن علم رسم المصحف من بين علوم القرآن التي ضعف اهتمام المسلمين بها في هذا العصر وتكاد تقتصر على الدارسين المتخصصين،  لذا أردت من خلال هذه الورقة التعريف بهذا العلم الجليل وإبراز جهود المدارس العلمية الشنقيطية (المحاضر) في خدمته وحفظه.

تعريف علم رسم المصحف:

-      الرسم في اللغة الأثر ، لذا يرد ذكره كثيرا في أشعار العرب في بكائهم على الاطلال وتذكرهم الديار:
يقول جميل بن معمر:       رسم دار وقفت في طلله ** كدت أقضي الحياة من جلله
ويقول طرفة بن العبد:    أتعرف رسم الدار قفرا منازله ** كجفن اليماني زخرف الوشي ماثله
-      وعلم رسم المصحف اصطلاحا هو : (الوضع الذي ارتضاه أمير المؤمنين ذو النورين عثمان رضي الله عنه في كتابة كلمات القرآن الكريم وحروفه)، وسمي رسما لأن تصوير الألفاظ بحروف هجائها يجعل للمنطوق أثرا يمكن الاطلاع عليه والرجوع إليه.
كتابة المصحف:   
مر جمع القرآن الكريم بمرحلتين بارزتين، الأولى في خلافة الصديق والثانية في خلافة ذي النورين عثمان رضي الله عنهما، ونستعرضهما هنا بإيجاز لتتضح الآلية التي تمت بها كتابة المصحف:
1/ جمع القرآن في عهد أبي بكر الصديق رضي الله عنه:
       نكتفي هنا بما أخرجه الامام البخاري رحمه الله في صحيحه من أن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: (أرسل إلي أبو بكر مقتل أهل اليمامة ، فإذا عمر بن الخطاب عنده، قال أبو بكر رضي الله عنه: إن عمر أتاني فقال إن القتل قد استحر يوم اليمامة بقراء القرآن، وإني أخشى أن يستحر القتل بالقراء بالمواطن فيذهب كثير من القرآن، وإني أرى أن تأمر بجمع القرآن، قلت لعمر : كيف تفعل شيئا لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم!.. قال عمر : هذا والله خير، فلم يزل عمر يراجعني حتى شرح الله صدري لذلك ورأيت في ذلك الذي رأى عمر ، قال زيد: قال أبو بكر: إنك رجل شاب عاقل لا نتهمك وقد كنت تكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم فتتبع القرآن فاجمعه ، فوالله لو كلفوني نقل جبل من الجبال ما كان أثقل علي مما أمرني به من جمع القرآن، قلت : كيف تفعلون شيئا لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال هو والله خير ، فلم يزل أبو بكر يراجعني حتى شرح الله صدري للذي شرح له صدر أبي بكر وعمر رضي الله عنهما ، فتتبعت القرآن أجمعه من العسب واللخاف وصدور الرجال حتى وجدت آخر سورة التوبة مع أبي خزيمة الأنصاري لم أجدها مع أحد غيره: (لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم) حتى خاتمة براءة، فكانت الصحف عند أبي بكر حتى توفاه الله ثم عند عمر حياته ثم عند حفصة بنت عمر رضي الله عنه).
2/ توحيد المصاحف على عهد عثمان رضي الله عنه:
         وأخرج البخاري أيضا في الصحيح من حديث أنس رضي الله عنه، أن حذيفة بن اليمان قدم على عثمان وكان يغازي أهل الشأم في فتح إرمينية وأذربيجان مع أهل العراق، فأفزع حذيفة اختلافهم في القراءة ، فقال حذيفة لعثمان: يا أمير المؤمنين أدرك هذه الأمة قبل أن يختلفوا في الكتاب اختلاف اليهود والنصارى، فأرسل عثمان إلى حفصة أن أرسلي إلينا بالصحف ننسخها في المصاحف ثم نردها إليك ، فأرسلت بها حفصة إلى عثمان فأمر زيد بن ثابت وعبد الله بن الزبير وسعيد بن العاص وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام فنسخوها في المصاحف ، وقال عثمان للرهط القرشيين الثلاثة: إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيء من القرآن فاكتبوه بلسان قريش فإنما نزل بلسانهم ففعلوا، حتى إذا نسخوا الصحف في المصاحف رد عثمان الصحف إلى حفصة وأرسل إلى كل أفق بمصحف مما نسخوا، وأمر بما سواه من القرآن في كل صحيفة أو مصحف أن يحرق.
-      ومن هنا تبرز مظاهر الدقة والاحكام في خطة عثمان رضي الله عنه لكتابة المصحف:
** اعتماد مصحف الصديق أساسا لنسخ المصاحف.
** تشكل لجنة علمية من أجلاء قراء الصاحبة وأكثرهم أخذا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
** وضع عثمان الخطة بنفسه وحدد المرجع عند الاخلاف وهو لغة قريش.
** مصادرة وتحريق باقي النسخ.
** إرسال نسخ من المصحف لباقي الامصار.
لذا جاء خط المصحف العثماني آية حفظ الله بها كتابه، وحققت فوائد كثيرة منها:
1/  مراعاة القراءات المتنوعة في الرسم               
2/ إفادة المعاني المختلفة
3/ الدلالة على بعض المعاني الخفية                    
4/ الدلالة على أصل الحركة
5/مراعاة بعض اللغات الفصيحة                       
6/الاعتماد في القرآن على الحفظ وليس على الكتابة.

         وقد حصر العلماء قواعد رسم المصحف العثماني في ست وهي: الحذف، والزيادة، والهمز، والبدل، والفصل، والوصل، وما فيه قراءتان فقرىء على إحداهما.
        وجمع هذه القواعد العلامة الشيخ محمد العاقب الجكني الشنقيطي رحمه الله بقوله:
الرسم في ست قواعد استقل
وما أتى بالوصل أو بالفصل
وذو قراءتين مما قد شهــــــر

حذف زيادة وهمز وبدل
موافقا للفظ أو للأصل
فيه على أحداهما قد اقتصــــر
حكم كتابة القرآن بغير الرسم العثماني:   
       من المعروف أن رسم المصحف لا يوافق في بعض الوجوه الكتابة الإملائية الشائعة، لذا يحسن بيان حكم الكتابة بغير الرسم العثماني، ومع اخلاف أهل العلم إلا أن الراجح ما ذهب إليه الجمهور من تحريم ذلك، فقد أخرج الامام أبو عمرو الداني بإسناده: ( قال أشهب : سئل مالك فقيل له: أرأيت من استكتب مصحفا اليوم أترى أن يكتب على ما أحدث الناس من الهجاء اليوم؟ فقال: لا أرى ذلك ، ولكن يكتب على الكتبة الأولى، قال أبو عمرو : ولا مخالف له في ذلك من علماء الأمة) .
وقال في موضع آخر: (سئل مالك عن الحروف في القرآن: الواو ، والألف ، أترى أن يغير من المصحف إذا وجد فيه كذلك؟    قال: لا .
قال أبو عمرو : يعني الواو والألف المزيدتين في الرسم المعدومتين في اللفظ ، نحو الواو (أولئك) و(أولي) و(أولات) و(سأوريكم) و(الربوا) وشبهه ونحو ذلك الألف في (لن ندعوا) و(ليبلوا) و(لا تايسوا) و(أولا أذبحنه) و(مائة) و(مائتين) و(لا تايسوا) و(لا يا يئس) و(أفلم يايئس) و(يبدءا) و(تفتئوا) و(يعبؤا) وشبهه وكذلك الياء في نحو (من نبأي المرسلين) و(ملائه) و(أفأن مت) وما أشبهه) ا . هـ .
وقال الهيتمي بعد ذكر كلام الإمام مالك رحمه الله: (قال بعض أئمة القراء: ونسبته إلى مالك ، لأنه المسئول ، وإلا فهو مذهب الأئمة الأربعة . . وقال بعضهم: والذي ذهب إليه مالك هو الحق إذ فيه بقاء الحالة الأولى إلى أن يتعلمها الآخرون ، وفي خلافها تجهيل آخر الأمة- أولهم).



جهود الشنفاقطة في خدمة علم الرسم
        إن مما يثلج الصدر ما تشهده حواضر المغرب الاسلام عموما وبلاد شنقيط (موريتانيا) خصوصا من جهود كبيرة لخدمة علم الرسم رغم غربته في واقعنا المعاصر.
        وفي تقديري أن ما ثبت من كلام صريح للإمام مالك رحمه الله جعل أتباع المذهب في هذه البلاد يعتنون بعلم الرسم ويتورعون عن كتابة القرآن الكريم الكتابة الاملائية الشائعة.
        وقد اعتمدت المدراس الشنقيطية (المحاضر) في مقرراتها علم الرسم باعتباره متطلبا لإجادة حفظ القرآن الكريم، إذ يلزم الطالب حفظ منظومة علمية في هذا الفن، وإلا لم يكن حافظا لكتاب الله أحرى أن يحمل إجازة فيه.. والزائر لهذه المدراس يجد عجبا من إتقان الطلاب واعتنائهم بهذا العلم، فمن خصائص هذه المدارس قديما أنه لا يفتح فيها مصحف!.. وإنما يملي الشيخ على طلابه ويصحح ما كتبوا.
      ومن مظاهر العناية بهذ العلم عند القوم كثرة التأليف فيه، حيث انتشرت المنظومات العلمية والشروح والحواشي والتحقيقات، وقد استعرض صاحب كتاب "جهود العلماء الشناقطة في رسم القرآن وضبطه" واحدا وعشرين كتابا في هذا العلم الشريف.
ومن أكثر هذه الكتب شيوعا :
1/(الإيضاح الساطع على المحتوى الجامع رسم الصحابة وضبط التابع) المسمى: " رسم الطالب عبد الله" - تأليف الشيخ عبد الله بن محمد الأمين الشنقيطي
2/(شرح تحفة الفتيان في رسم القرآن) - تأليف الشيخ محمد بن محمد عبد الله اليعقوبي الشنقيطي، وهو شرح جيد لمنظومة رقيقة للمؤلف نفسه.
3/رشف اللَّمي عن كشف العَمَى - شرح على أرجوزة كشف العمى والرين في الرسم والضبط -
وكلاهما للشيخ العلامة محمد العاقب بن مايأبى الجكني الشنقيطي.
4/ المقرب المبسوط في رسم القرءان وضبطه لفضيلة العلامة الدنبجة بن معاوية الشنقيطي.




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

كافة الحقوق محفوظة 2013 © مدونة alghasry