قصة قارون .. عبر وعبرات

  عرض القصة:    
       كان قارون من قوم موسى عليه السلام فبلغ في التجبر والكبر شأوا بعيدا، وآتاه الله عز وجل أموالا عظيمة، حتى إن مفاتيح خزائنه ليتعذر حملها على الرجال الأقوياء الأشداء، ولما رأى قومه كبره وبغيه عليهم قالوا له: لا تفرح!..  إن الله لا
يحب أهل البطر والكفران لنعمه عز وجل، والتمس في هذه الأموال – التي هي نعمة من الله - ثواب الآخرة، مع عدم ترك حظك من الدنيا دون إسراف ولا تقتير، وأحسن إلى الضعفة والمساكين ببذل جزء من هذه الأموال التي هي محض تفضل، واستعمل هذه النعمة في ما يصلح لا ما يفسد حتى لا يحل بك غضب الله وأليم عقابه.
        ولم تجد هذه الموعظة البليغة من هذا المتجبر المتكبر غير الصدود، بل بلغ به البغي نكران النعمة ونسبة الفضل لنفسه لا للمنعم المتفضل سبحانه، فقال لقومه: إنما حصلت هذه الأموال بما أملكه من إمكانات ومؤهلات! ..  فقال الله عز وجل موبخا ومقررا: أولم يعلم قارون أن الله قد أهلك من الأمم الغابرة من هو أشد منه قوة وأكثر جمعًا للأموال؟ ولا يُسأل عن ذنوبهم المجرمون؛ لما بلغوا من المجاهرة بها وإشاعتها وإذاعتها، فالله يعاقبهم على ما علم منهم.
         ولم يكتف قارون برده القولي لنصيحة قومه، بل خرج في كامل زينته وصولجانه لإظهار جاهه وماله، فافترق الناس فريقين:
-      قوم  "يريدون الحياة الدنيا" فتنهم البريق الزائف، فانجفلوا خلف سراب المال الزائل، وتمنوا أن يكون لهم مثل ما لقارون.
-      وقوم  من "الذين أوتوا العلم" آثروا ما عند الله والدار الآخرة ونصحوا بذلك الفئة الأخرى.
          فحاق بقارون جزاء صنيعه في الدنيا قبل الآخرة، وخسف الله به وبداره الأرض، فلم يجد له جندا ينصرونه أو يدفعون عنه عذاب الله، حتى أولئك المفتونون الذين تمنوا مكانه بالأمس أفاقوا من سكرتهم وعلموا أن العطاء والمنع من الله عز وجل وحده وأنه لحكمة يعلمها، واعتبروا النجاة من العقوبة والخسف منة وتفضلا من الله تعالى، الذي لا فلاح إلا في الايمان به، فالكافر لا يفلح في الدنيا ولا في الآخرة.

عبر وفوائد من قصة قارون:
1-                  تصور القصة أقسام الناس حيال "فتنة المال" بين من فهم مراد الله منه فأخذه من حله ووضعه في محله، وبين من استعبده المال فدفعه للظلم والبغي .. يقول سيد قطب رحمه الله: (لقد خلق الله طيبات الحياة ليستمتع بها الناس؛ وليعلموا في الأرض لتوفيرها وتحصيلها ، فتنمو الحياة وتتجدد ، وتتحقق خلافة الإنسان في هذه الأرض . ذلك على أن تكون وجهتهم في هذا المتاع هي الآخرة ، فلا ينحرفون عن طريقها ، ولا يشغلون بالمتاع عن تكاليفها . والمتاع في هذه الحالة لون من ألوان الشكر للمنعم ، وتقبل لعطاياه ، وانتفاع بها . فهو طاعة من الطاعات يجزي عليها الله بالحسنى .. ) – في ظلال القرآن.
2-                  توضح القصة بجلاء توازن حياة المسلم وتوسطه في الامور كلها، يبتغي الدار الآخرة دون نسيان حظه من الدنيا، يقول سيد رحمه الله : (وهكذا يحقق هذا المنهج التعادل والتناسق في حياة الإنسان ، ويمكنه من الارتقاء الروحي الدائم من خلال حياته الطبيعية المتعادلة ، التي لا حرمان فيها ، ولا إهدار لمقومات الحياة الفطرية البسيطة .. { وأحسن كما أحسن الله إليك } . . فهذا المال هبة من الله وإحسان . فليقابل بالإحسان فيه . إحسان التقبل وإحسان التصرف ، والإحسان به إلى الخلق ، وإحسان الشعور بالنعمة ، وإحسان الشكران) – في ظلال القرآن.
3-                  الناظر لحال الامة في حاضرها وماضيها يدرك دون كبير عناء أن "قصة قارون" ليست استثناء، بل نجد لها ما يشبهها في كل زمان ومكان، فالجشع والبغي والبطر هو هو في النفس البشرية، إلا الثلة التي أكرمها الله بالعلم الإيمان فآثرت ما عند الله والدار الآخرة.
4-                  تبرز القصة طرفا من جماليات القصص القرآني مثل كسر الرتابة بتجاوز المشاهد التي لا تخدم بناء القصة، ولا تؤدي غرضا، مع تكامل مشاهد وعناصر القصة في تناغم وانسجام (بطل القصة – موضوعها – شخوصها – تفاعل عناصرها)، ولا غرو فقصص القرآن أحسن القصص، قال تعالى: (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ).
5-                  تنبع أهمية هذه القصة وغيرها من أن القصص القرآني سبيل الاعتبار لأنه واقع تجسد في أمم خلت لا نسج خيال أديب (لقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ)، فالمفترى لا يحصل به الاعتبار ولا تقوم به الحجة.
6-                  زينة الحياة الدنيا لا تساوي شيئا في مقابل ما ادخر الله لعباده المؤمنين، حقيقة تضافرت حولها الآيات الصريحة والأحاديث الصحيحة، قال الله تعالى: (من كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا * وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا).
7-                  البغي مرتعه وخيم، وعادة الله في الظالم إمهاله حتى إذا طغى قصمه.
8-                  العاقبة للتقوى والمتقين مهما كانت صولة البغي وجولته، لذا تصور القصة ظهور المثل العليا في الفضيلة وزكاء النفوس وكيف انتصرت في نهاية المطاف واضمحلت انتفاشة الباطل والبغي، وفي ذلك تثبيت للجماعة المؤمنة في كل زمان، قال تعالى: (فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِل لَّهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِّن نَّهَارٍ بَلَاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ)، وقال تعالى: (وَكُلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاء الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ).
9-                  عجبا لأمر المؤمن إن أمره كله له خير، إن وسع الله عليه حمد وشكر، وإن قدر عليه رزقه صبر، وعلم أن ذلك خير له في عاجل أمره وآجله، فقد يؤدي به المال للبغي والظلم فيكون عليه نقمه، قال تعالى: (كلا إنّ الانسنَ ليطغى * أن رآهُ استغنى).

10-               ليس بالعلم ولا بالفهم ولا بالقوة والمنعة ينال ما عند الله، فما عند الله لا ينال إلا بطاعته، وعطاياه محض تفضل منه ومنة، فلا مكره له سبحانه، له الخلق والامر، يعطي ويمنع ويخفض ويرفع.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

كافة الحقوق محفوظة 2013 © مدونة alghasry